كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي غريب الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: «كان رجل من بني إسرائيل كثيرًا ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم قالوا له: وما كان يصنع قال: ورث من أبيه مالًا كثيرًا فاشترى بستانًا فحبسه للمساكين وقال هذا بستاني عند الله تعالى وفرق دنانير عديدة في الضعفاء وقال بهذا أشترى جارية من الله تعالى وعبيدًا وأعتق رقابًا كثيرة وقال هؤلاء خدمي عند الله تعالى، والتفت ذات يوم لرجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي وتارة يكبو، فابتاع له مطية يسير عليها وقال هذه مطيتي عند الله تعالى أركبها والذي نفس محمد بيده لكأني أنظر إليه وقد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها تسير به إلى الموقف».
قال المؤلف رحمه الله: ما ذكره القاضي عياض من أن ذلك في الدنيا أظهر والله أعلم لما في الحديث نفسه من ذكر السماء والمبيت والصباح والقائلة، وذلك ليس في الآخرة. وقد احتج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفًا مشاة وصنفًا ركبانًا وصنفًا على وجوههم قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» قال: هذا حديث حسن فقوله: {يتقون بوجوههم كل حدب وشوك} يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة ذلك على ما يأتي من صفة أرض المحشر، والله أعلم.
وخرج النسائي عن أبي ذر قال: إن الصادق المصدوق حدثني «أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج فوجًا راكبين طاعمين كاسين، وفوجًا تسحبهم الملائكة على وجوههم، ويحشر الناس فوجًا يمشون ويسعون يلقى الله ألافه على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها».
وذكر عمر بن شيبة في كتاب المدينة على ساكنها السلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس». وهذا كله مما يدل على أن ذلك في الدنيا كما قال القاضي عياض، وأما الآخرة، فالناس أيضًا مختلفو الحال على ما ذكروه، وسنذكر من ذلك ما فيه كفاية في الباب بعد هذا.
والحشر الثالث: حشرهم إلى الموقف على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله. قال الله تعالى وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدًا.
والرابع: حشرهم إلى الجنة والنار. قال الله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا} أي ركبانًا على النجب، وقيل: على الأعمال كما تقدم. وقد وردت أخبار منها ما رواه النعمان سعد عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في قوله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا} قال: أما إنهم ما يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقًا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب، وأزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة»، وسمي المتقون وفدًا لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه فهم لا يتباطئون، لكنهم يجدون ويسرعون والملائكة تتلقاهم بالبشارات. قال الله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فيزيدهم ذلك إسراعًا وحق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا بالطاعات {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا} أي عطاشًا. وقال: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقًا} وقال: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا} وقال: {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانًا وأضل سبيلًا}.
مسلم عن أنس «أن رجلًا قال يا رسول الله: الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرًا أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري أيضًا.
فصل: قال أبو حامد: وذكر هذا الفصل وفي طبع الآدمي إنكار ما لم يأنس وبه ولم يشاهده ولو لم يشاهد الإنسان الحية وهي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل، والمشي بالرجل أيضًا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك، فإياك أن تنكر شيئًا من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تشاهد عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارًا لها، فاحضر رحمك الله في قلبك صورتك، وأنت قد وقفت عاريًا ذليلًا مدحورًا متحيرًا مبهوتًا منتظرًا لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء.
باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو وفي أرض المحشر. وذكر الصخرة. وقوله تعالى: {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} الآية.
أبو نعيم قال، حدثنا أبي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد قال، قال حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: لأضعن عليك عرشي ولأحشرن عليك خلقي وليأتينك يومئذ داود راكبًا.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} قال: إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، ويا عظامًا نخرة، ويا أكفانًا فانية، ويا قلوبا خلوية، ويا أبدانًا فاسدة، ويا عيونًا سائلة قوموًا لعرض رب العالمين. قال قتادة: المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس. قال كعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا. وقيل: باثني عشر ميلًا ذكره القشيري، والأول ذكره الماوردي، وقيل: إن المنادي جبريل والله أعلم. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم {يوم يسمعون الصيحة بالحق} يريد النفخ في الصور {ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا} إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر {ذلك حشر علينا يسير} أي هين سهل.
فإن قيل: فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها وهم أموات؟
قيل له: إن نفخة الإحياء تمتد وتطول، فتكون أوائلها للإحياء وما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء ويسمعون ما يكون للإزعاج، ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة والناس يحيون منها أولًا فأولًا، وكلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج، وقد تقدم أن الأرواح في الصور، فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده، {فإذا هم من الأجداث} أي القبور {إلى ربهم ينسلون} وهذا يبين لك ما ذكرنا وبالله توفيقنا.
وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوي السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ، فذلك قول الله عز وجل: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} الآية. وقال الله عز وجل: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت} فجر عذبها في ملحها وملحها في عذبها في تفسير قتادة {وإذا القبور بعثرت} أي أخرج ما فيها من الأموات، وقال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها} أي سمعت وأطاعت {وحقت} أي وحق لها أن تفعل {وإذا الأرض مدت} تمد مد الأديم وهذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط، {وألقت ما فيها} من الأموات فصاروا على ظهرها.
مسلم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد».
وخرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب، عن عبد الله بن مسعود: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأعرى ما كانوا قط، وأنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه، ومن سقا لله سقاه، ومن كسا لله كساه، ومن عمل لله كفاه، ومن نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم.
وروي من حديث معاذ بن جبل قال: «قلت يا رسول الله أرأيت قول الله يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع، ثم قال: تحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتًا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين وبدل صورهم، فمنهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم ووجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعلقون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابًا تقدرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع النار، وبعضهم أشد نتنًا من الجيف، وبعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت والحرام والمكس، وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم فأكلة الربا، والعمي من يجوز في الحكم، والصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم والمقطعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان، والذين هم أشد نتنًا من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم، والذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر والفخر والخيلاء».
وقال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة: ومن الناس من يحشر بفتنته الدنيوية، فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده ويقول سحقًا لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه، يقول: أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، وكذلك يبعث السكران سكران، والزامر زامرًا، وكل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله. قال: ومثل الحديث الذي روي في الصحيح «أن شارب الخمر يحشر والكوز معلق في عنقه والقدح بيده وهو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق». وقال أيضًا في الكتاب: فإذا استوى كل أحد قاعدًا على قبره فمنهم العريان ومنهم المكسو والأسود والأبيض، ومنهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف، ومنهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقًا برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنسًا وجنًا وطيرًا ووحشًا، فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله ويقول له: قم فانهض إلى المحشر، فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلًا، ومنهم من يشخص عمله حمارًا، ومنهم من يشخص له كبشًا تارة يحمله وتارة يلقيه ويجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه وعن يمينه ومثله يسرس بين يديه في الظلمات وهو قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} وليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار ويتردد المرتابون، والمؤمن ينظر إلى قوة حلكتها وشدة حندسها ويحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، لأن الله تعالى يكشف للعبد المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة، كما فعل بأهل الجنة وأهل النار حيث يقول: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم}، وكما قال سبحانه: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} لأن أربعًا لا يعرف قدرها إلا أربع: لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى، ولا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء، ولا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء والسقم، ولا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ. وفي نسخة: ولا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم، ومن الناس من يبقى على قدميه وعلى طرف بنانه ونوره يطفأ تارة ويشتعل أخرى، وإنما هم عند البعث على قدر إيمانهم وأعمالهم، وقد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية، والحمد لله.
باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض:
منها قوله تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} وقال تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميًا وبكمًا وصمًا} وفي آية ثالثة إنهم يقولون {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} وهذا كلام وهو مضاد للبكم والتعارف تخاطب وهو مضاد للصم والبكم معًا، وقال الله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} والسؤال لا يكون إلا بالإسماع وإلا لناطق يتسع للجواب وقال: {نحشر المجرمين يومئذ زرقًا} وقال: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} وقال: {يوم يخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون} والنسلان والإسراع مخالفان للحشر على الوجوه.